سورة الأنبياء - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


وقوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً} جوابٌ لقولهم: هل هذا إلا بشر؟ الخ، متضمنٌ لردّ ما دسّوا تحت قولهم: كما أُرسل الأولون من التعريض بعدم كونِه عليه السلام مثلَ أولئك الرسلِ صلوات الله تعالى عليهم أجمعين، ولذلك قُدّم عليه جوابُ قولهم: فليأتنا بآية ولأنهم قالوا ذلك بطريق التعجيزِ فلا بد من المسارعة إلى رده وإبطالِه كما مر في تفسير قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} وقوله تعالى: {مَا نُنَزّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ} ولأن في هذا الجواب نوعَ بسطٍ يُخِل تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظم الكريم، والحقُّ أن ما اتخذوه سبباً للتكذيب موجبٌ للتصديق في الحقيقة لأن مقتضى الحكمةِ أن يُرسلَ إلى البشر البشرُ وإلى الملَك الملَكُ حسبما ينطِق به قوله تعالى: {قُل لَوْ كَانَ فِى الارض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً} فإن عامةَ البشر بمعزل من استحقاق المفاوضةِ الملَكية لتوقّفها على التناسب بين المُفيض والمستفيض، فبعثُ الملَكِ إليهم مزاحِمٌ للحكمة التي عليها يدور فلكُ التكوينِ والتشريع، وإنما الذي تقتضيه الحكمةُ أن يبعث الملكُ منهم إلى الخواصّ المختصّين بالنفوس الزكية المؤيَّدين بالقوة القدسية المتعلّقين بكلا العالَمَين الروحانيِّ والجُسماني ليتلقَّوا من جانب ويُلْقوا إلى جانب آخرَ، وقوله تعالى: {نُّوحِى إِلَيْهِمْ} استئنافٌ مبينٌ لكيفية الإرسالِ وصيغةُ المضارعِ لحكاية الحالِ الماضية المستمرةِ، وحُذف المفعولُ لعدم القصدِ إلى خصوصه، والمعنى وما أرسلنا إلى الأمم قبلَ إرسالك إلى أمتك إلا رجالاً مخصوصين من أفراد الجنسِ مستأهلين للاصطفاء والإرسال نوحي إليهم بواسطة الملَك ما نوحي من الشرائع والأحكام وغيرهما من القصص والأخبار، كما نوحي إليك من غير فرقٍ بينهما في حقيقة الوحي وحقيقةِ مدلولِه حسبما يَحكيه قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين} إلى قوله تعالى: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} كما لا فرقَ بينك وبينهم في البشرية فما لهم لا يفهمون أنك لست بدْعاً من الرسل وأن ما أُوحيَ إليك ليس مخالفاً لما أوحيَ أليهم فيقولون ما يقولون، وقرئ: {يوحى إليهم} بالياء على صيغة المبني للمفعول جرياً على سَنن الكبرياءِ وإيذاناً بتعين الفاعل وقوله تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى الكفرة لتبكيتهم واستنزالِهم عن رتبة الاستبعادِ والنكير إثرَ تحقيق الحقِّ على طريقة الخطابِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه الحقيقُ بالخطاب في أمثال تلك الحقائقِ الأنيقةِ، وأما الوقوفُ عليها بالاستخبار من الغير فهو من وظائف العوامِّ، والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقةً بدلالة المذكورِ عليه أي إن كنتم لا تعلمون ما ذُكر فاسألوا أيها الجهلةُ أهلَ الكتاب الواقفين على أحوال الرسلِ السالفةِ عليهم السلام لتزول شبهتُكم. أُمروا بذلك لأن إخبارَ الجمِّ الغفير يوجب العلمَ لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين في عداوته عليه السلام ويشاورونهم في أمره عليه السلام، ففيه من الدِلالة على كمال وضوحِ الأمر وقوةِ شأنِ النبي عليه السلام ما لا يخفى.


{وَمَا جعلناهم جَسَداً} بيان لكون الرسل عليهم السلام أُسوةً لسائر أفراد الجنسِ في أحكام الطبيعةِ البشرية إثرَ بيانِ كونهم أسوةً في نفس البشرية، والجسدُ جسمُ الإنسانِ والجنِّ والملائكة، ونصبُه إما على أنه مفعولٌ ثانٍ للجعل لكن لا بمعنى جعلِه جسداً بعد أن لم يكن كذلك كما هو المشهورُ من معنى التصيير، بل بمعنى جعله كذلك ابتداءً على طريقة قولهم: سبحان من صغّر البعوضَ وكبر الفيل، كما مر في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ} وإما حالٌ من الضمير والجعلُ إبداعيٌّ وإفرادُه لإرادة الجنس المنتظمِ للكثير أيضاً، وقيل: بتقدير المضافِ أي ذوي جسدٍ وقوله تعالى: {لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} صفةٌ له أي وما جعلناهم جسداً مستغنياً عن الأكل والشرب بل محتاجاً إلى ذلك لتحصيل بدَلِ ما يتحلل منه {وَمَا كَانُواْ خالدين} لأن مآلَ التحلّلِ هو الفناءُ لا محالة، وفي إيثار ما كانوا على ما جعلناهم تنبيهٌ على أن عدمَ الخلود مقتضي جِبِلّتِهم التي أشير إليها بقوله تعالى: {وَمَا جعلناهم} الخ، لا بالجعل المستأنَف والمرادُ بالخلود إما المكثُ المديدُ كما هو شأنُ الملائكة أو الأبدية وهم معتقدون أنهم لا يموتون، والمعنى جعلناهم أجساداً متغذّيةً صائرةً إلى الموت بالآخرة على حسب آجالِهم لا ملائكةً ولا أجساداً مستغنيةً عن الأغذية مصونةً عن التحلل كالملائكة فلم يكن لها خلودٌ كخلودهم، فالجملةُ مقرّرةٌ لما قبلها من كون الرسلِ السالفةِ عليهم السلام بشراً لا ملَكاً مع ما في ذلك من الرد على قولهم: ما لهذا الرسولِ يأكل الطعامَ.
وقوله تعالى: {ثُمَّ صدقناهم الوعد} عطفٌ على ما يفهم من حكاية وحْيِه تعالى إليهم على الاستمرار التجدّدي كأنه قيل: أوحينا ثم صدقناهم في الوعد الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي بإهلاك أعدائِهم {فأنجيناهم وَمَن نَّشَاء} من المؤمنين وغيرهم من تستدعي الحكمةُ إبقاءَه كمن سيؤمن هو أو بعضُ فروعِه بالآخرة، وهو السرُّ في حماية العرب من عذاب الاستئصال {وَأَهْلَكْنَا المسرفين} أي المجاوزين للحدود في الكفر والمعاصي.


{لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ} كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لتحقيق حقيةِ القرآنِ العظيم الذي ذُكر في صدر السورةِ الكريمةِ إعراضُ الناس عما يأتيهم من آياته واستهزاؤُهم به وتسميتُهم تارةً سحراً وتارة أضغاثَ أحلام وأخرى مفترًى وشعراً، وبيانُ علوِّ رتبته إثرَ تحقيق رسالتِه صلى الله عليه وسلم ببيان أنه كسائر الرسلِ الكرام عليهم الصلاة والسلام قد صدر بالتوكيد القسمي إظهاراً لمزيد الاعتناء بمضمونه وإيذاناً بكون المخاطبين في أقصى مراتب النكيرِ، أي والله لقد أنزلنا إليكم يا معشرَ قريش {كتابا} عظيمَ الشأن نيِّر البرهان وقوله تعالى: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} صفةٌ لكتاباً مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ التفخيميُّ من كونه جليلَ المقدار بأنه جميلُ الآثار مستجلبٌ لهم منافعَ جليلةً، أي فيه شرفكم وصِيتُكم كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} وقيل: ما تحتاجون إليه في أمور دينِكم ودنياكم، وقيل: فيه ما تطلُبون به حَسَنَ الذكرِ من مكارم الأخلاق، وقيل: فيه موعظتُكم وهو الأنسب بسباق النظمِ الكريم وسياقِه فإن قوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} إنكارٌ توبيخيٌّ فيه بعثٌ لهم على التدبر في أمر الكتابِ والتأمل فيما في تضاعيفه من فنون المواعظِ والزواجر التي من جملتها القوارعُ السابقةُ واللاحقةُ، والفاءُ للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلامُ أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أن الأمرَ كذلك؟ أو لا تعقلون شيئاً من الأشياء التي من جملتها ما ذكر.
وقوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ} نوعُ تفصيل لإجمالِ قوله تعالى: {وَأَهْلَكْنَا المسرفين} وبيانٌ لكيفية إهلاكِهم وسببِه وتنبيهٌ على كثرتهم، وكم خبريةٌ مفيدةٌ للتكثير محلُّها النصبُ على أنها مفعولٌ لقصمنا ومن قرية تمييزٌ، وفي لفظ القصْمِ الذي هو عبارةٌ عن الكسر بإبانة أجزاءِ المكسور وإزالةِ تأليفها بالكلية من الدِلالة على قوة الغضبِ وشدة السُّخط ما لا يخفى وقوله تعالى: {كَانَتْ ظالمة} في محل الجرِّ على أنها صفةٌ لقرية بتقدير مضافٍ ينبىء عنه الضميرُ الآتي، أي وكثيراً قصمنا من أهل قريةٍ كانوا ظالمين بآيات الله تعالى كافرين بها كدأْبكم {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا} أي بعد إهلاكها {قَوْماً ءاخَرِينَ} أي ليسوا منهم نسباً ولا ديناً، ففيه تنبيهٌ على استئصال الأولين وقطعِ دابرهم بالكلية وهو السرُّ في تقديم حكاية إنشاءِ هؤلاء على حكاية مبادي إهلاكِ أولئك بقوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا} أي أدركوا عذابَنا الشديدَ إدراكاً تاماً كأنه إدراكُ المشاهَد المحسوسِ {إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ} يهرُبون مسرعين راكضين دوابَّهم أو مُشبَّهين بهم في فرْط الإسراع {لاَ تَرْكُضُواْ} أي قيل لهم بلسان الحالِ أو بلسان المقالِ من الملَك أو ممن ثمّةَ من المؤمنين بطريق الاستهزاءِ والتوبيخِ: لا تركُضوا {وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} من التنعم والتلذّذ، والإترافُ إبطارُ النعمة {ومساكنكم} التي كنتم تفخرون بها {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} تُقصَدون للسؤال والتشاور والتدبير في المُهمّات والنوازل، أو تُفقّدون إذا رُئيت مساكنُكم خاليةً وتُسألون أين أصحابُها، أو يسألكم الوافدون نوالَكم على أنهم كانوا أسخياءَ ينفقون أموالَهم رياءً، أو بخلأَ فقيل لهم ذلك تهكماً إلى تهكم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8